ماذا نتعلم عن الاحترام والهوية من التعدديين؟

ترجمة: دالية الزير

تدقيق: خلود الخنيني

مدة القراءة: 8 دقائق

البشر مخلوقات واعية بذاتها حيث يمكننا تصور ذواتنا كائنات نفسية نشكل معتقدات حول من نحن وماهيتنا؛ ولدينا أيضًا هويات تتمثل في المعتقدات الذاتية والتي تعني مصادر ذات معنى وغرض وقيمة تساعدنا في تقييد اختياراتنا وأفعالنا.

 

علاوة على القدرة على التفكير في أنفسنا فإنه يمكننا ككائنات واعية بذاتها أن ندرك أننا أهداف لأفكار الآخرين مما يتيح إمكانية الصراع بين هوياتنا وكيف يتصورنا الآخرين. هذا الصراع المحتمل يمنحنا سلطة فريدة على بعضنا البعض ولكنه يجعل منا أشخاصًا سريعي التأثر إذ أن الكائنات الواعية بذاتها فقط هي من يمكن أن تقتل بنظرة أو تموت من الإحراج.

 

قد تؤدي سرعة تأثرنا بالطريقة التي ينظر بها الآخرون إلينا إلى خلق التزامات لمحاولة النظر للآخرين ببعض الطرق التي يرغبون بها - وهي طرق تتوافق مع هوياتهم. ولكن ماذا عن الهويات التي نعتقد أنها خاطئة أو عبثية أو التي ببساطة لا نفهمها؟

 

إن التعددي هو شخص يردد عبارات مثل: «أنا واحد من بين العديد من الأشخاص داخل رأسي.» وعلى الرغم من ندرة وجودهم وصعوبة تحديد ندرة ذلك- فإن الأشخاص التعدديين يظهرون بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي ومن حين لآخر في مقال إعلامي شهير. وفي كتيب على الإنترنت يشرح كيفية التعامل مع «إفصاح» زميل العمل (كما ورد في الدليل) عن هويته التعددية.

 

قد تعتقد أنك سمعت عن التعددية لأنك قد سمعت عن اضطراب الهوية الانفصامي وذلك لأن الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الانفصامية جربوا أن يكونوا متعددين نفسيًا مثل الشخص التعددي، لكن العديد من التعدديين لا يستوفون معايير تشخيص اضطراب الشخصية الانفصامية، إذ أنهم لا يجدون أن تعددهم أمرًا مقلقًا أو معرقلًا في حد ذاته. وفي حالات أخرى وبسبب عدم استيفاء التعدديين لمعيار فقدان الذاكرة المصاحب لاضطراب الشخصية الانفصامية فإن الشخصيات المتعددة التي يشعرون بها بداخلهم تمكنهم من مشاركة تجاربهم أو التواصل مع بعضهم البعض حولها. وبهذا يمكننا القول بأن معظم الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الانفصامية ليسوا متعددين.

 

ومن المهم التأكيد على أن الشخصيات التعددية لا تشعر أنها متعددة نفسياً فحسب بل يؤمنون بأنهم كذلك. ويجمع التعددي كل هذه الكائنات النفسية ذات الجسد الواحد لتكون شخصًا كاملًا.

ولنتفق على تسمية كل واحد من هذه الكائنات شخصًا (شخص ش) حيث يرمز الحرف «ش» الصغير إلى «جزء من إنسان واحد». كما عبر ذلك أحد الأشخاص بقوله: «تفترض أن هناك شخصًا حقيقيًا تحت كل منا والذي يستحضر وجود أصدقاء خياليين. لا، نحن مجرد أشخاص، شكرًا

 

كما يعتقد التعدديون- فإن التعددي ليس شخصًا فقط ولكنه مجموعة من الأشخاص المتجسدين معًا. كل شخص(ش) من هذه المجموعة يأخذ نفسه ليكون علاقات اجتماعية مع الآخرين كما يفعل أفراد الأسرة، وقد يتحدث هؤلاء الأشخاص المختلفون(ش) مع بعضهم البعض عن الاعجاب أو الكراهية أو الاحترام أو الاحتقار أو التعاون أو الجدال أو التفاوض.

 

ولعل أبرز ميزات التعدديين أنهم لا يصفون أنفسهم بقولهم: "أنا مجموعة من الناس". بدلاً من ذلك قد يعبرون عن ذلك كما وصفه أحد الأشخاص قائلاً:

«أنا أمثل نفسي فقط؛ لدي هوية واحدة وإحساس واحد بالذات وشخصية واحدة. على الرغم من اتحادي الذي لا يتجزأ مع الأعضاء الآخرين في مجموعتي ... إن عبارات مثل «ذواتك الأخرى»، أو «عندما كنت ذلك الشخصالآخر»، أو «شخصيتك الثانية» ... غير منطقية. فأنا ليس لدي «ذوات أخرى». أنا لست أحدًا غير نفسي».

 

يمكن تعريف التعدديين بما سأسميه الهويات المتعددة؛ هذه الهويات قد يكون من الصعب على الفرديين-أصحاب الهويات الفردية- بمن فيهم أنا أن يدركوا ماهيتها. إذ نستشعر كفرديين أنفسنا على أننا وحدنا في أجسادنا، وافتراضنا المسبق الذي لا يتزحزح هو أن هويات الناس تأتي فرادى لكل جسد بشكل تلقائي. بينما في الوقت نفسه يبدو أن أُسس التعدديين للتمييز بين الأشخاص(ش) المختلفين هي في المقام الأول أسس شخصية ظواهرية حيث أن ذلك مبني على تجاربهم الخاصة. ويرفضون فكرة أن يكون هؤلاء الأشخاص(ش) المختلفين غير مدركين لأفكار وتجارب كل شخص(ش) آخر أو حتى وجود شخصيات(ش) مختلفة جذريًا. ولكن أسس التعدديين للتمييز بين الأشخاص(ش) هي أن لكل شخص(ش) إحساسه المنفصل بالذات والفاعلية.

 

وبعبارة أخرى فإن الاختلالات في رسم الحدود بين الأشخاص(ش) ليست جسدية أو سمات نفسية يمكن ملاحظتها عن كثب كالاختلافات في الذاكرة والشخصية. وهذا تحدٍ لفهم ادعاء الهوية التعددية على مستويين؛ أحدهما أننا لا نستطيع الوصول إلى تجارب الآخرين بشكل عام، والآخر أن الفرديين لم يمروا بنفس التجارب. إذ أن الشخص الفردي بطبيعة الحال سيمر بتجارب شخص آخر -ليست كتلك التي مررت بها- ولكن جسد ذلك الشخص سيكون منفصلاً عنه.

 

في ضوء هذه العوائق التي تحول دون فهم ادعاء الهوية التعددية سيكون من الطبيعي أننا نأمل أن يكون مقصد التعددين من هذا الادعاء مجازيًا. ومع ذلك فإن هناك العديد من الاستعارات المألوفة التي تتضمن فكرة الذات المتعددة مثل: «أنا شخص آخر عندما أكون معها، أو لا أشابه من كنت في ذلك الوقت، أو ما قلته سابقاً- كان بلسان والدي وتكمن المشكلة في أن الشخصيات التعددية ترفض جلياً هذه الاستعارات لأنها مختلفة عما يقصدونه كما عبر شخص(ش) عن ذلك قائلاً:

«إنه من الصحيح أن يعبر الأشخاص عن جوانب مختلفة من أنفسهم وفقًا لسياقات مختلفة ولكن ذلك يختلف عن التعددية. سيمر أعضاء المجموعة التعددية أنفسهم بشكل فردي بتجربة هذه "الجوانب المختلفة" تمامًا كأي شخص آخر.»

 

حتى لو كان ادعاء الهوية التعددي لابد أن يكون مجازيًا بطريقة ما فليس من الواضح مكان الاستعارة لدى الشخصيات التعددية.

 

إن هوياتنا تهمنا كما يهمنا أن يحترمها الآخرون؛ ولكن قد يتساءل المرء عن مدى إمكانية احترام هوية لا يؤمن بها المرء أو حتى لا يفهمها.

 

هناك هويات ليس علينا احترامها لأنها تعزز ترتيبات اجتماعية ظالمة على سبيل المثال الذكورية، إلا أن هويات التعدديين تختلف عن ذلك ومن الواضح أنها تساعد التعدديين على فهم ما يمرون به.

 

قد يرى البعض أننا غير ملزمين باحترام الهويات الوهمية سواء أكانت ضارة أم لا.

وإن اعتقدنا ذلك فلا يبدو أن التعددين مخدوعين تمامًا، لأنهم يدركون أنه لا يمكنهم تقديم أي دليل يمكن ملاحظته يثبت وجود الأشخاص(ش) للفرديين كما كتب أحد الأشخاص(ش):

«أنا لا أنزعج من الانخراط مع المشككين ... لأن التجربة ذاتية ولا يمكن اختبارها. كل ما يمكنني قوله هو أنني واجهت شيئًا حقيقيًا، ولا يمكنني تقديم شيء ملموس لإقناع أي شخص أنني لست وحدي هنا».

 

وقد يحتج شخص آخر بأنه  لا يمكننا أن نُجبَر ليس فقط على تصديق ادعاءات الهوية بل حتى على محاولة ذلك والتي قد تصدمنا بعبثيتها أو بمجرد كونها خاطئة. لكن احترام الهويات المتعددة لا يتطلب منا تصديقها. فكل ما يتطلبه على الأقل هو عدم تصحيح التعدديين عند تصرفهم على أساس صورهم الذاتية وعدم التعامل مع هوياتهم المتعددة باستخفاف بالإضافة إلى أنه لا يجب على الفردي إقناع التعددي بأنه مخطئ.

 

وبعبارة أقوى يجدر بنا القول بأن الاحترام قد يحتم على الفرديين أنفسهم أن يقبلوا في سياق تواصلهم مع التعددين بأن الأشخاص(ش) المتعددين داخل التعددي فعلاً أشخاص مختلفين، وأعني بكلمة (القبول) هنا ما عبر عنه الفيلسوف ل. جوناثان كوهين في عام 1992 بأنه شيء مختلف تمامًا عن الإيمان. إن قبول شيء ما، بالطريقة التي أقصدها، هو الالتزام بالتعامل معه في سياق معين كما لو كان صحيحًا وعلى سبيل المثال فإن محامية الدفاع نيابة عن موكلها قد تقبل فكرة براءته سواءً كانت ذلك صحيحًا أم لا.

 

هذه النظرة إلى ما يعنيه احترام هويات التعدديين قد تكون متواضعة ولكنها ليست فعالة حيث يُطلب من الفرديين محاولة رؤية التعدديين بأعينهم -وذلك يعني أعين العديد من الأشخاص- إضافة إلى أن يتجاهلوا ميلهم إلى الاستجابة لمظاهر هويات التعدديين.

 

يعول إظهار هذا الاحترام جزئياً على أسبابٍ اجتماعية وأخلاقية حيث يعيش التعدديون في تناقض بين ما يؤمنون به عن أنفسهم وما يعتقده الآخرون عنهم.

في العالم الاجتماعي الخارجي - أي العالم الاجتماعي خارج رؤوسهم يعيش التعدديون في الغالب بالطريقة التي يراهم بها الفرديون. ولكن التصرف دائمًا وفقًا لما يعتقده الآخرون عنك بما لا تصدقه عن نفسك سبيلٌ لأن تعيش في كذبة. نعم، إنها كذبة حتى لو كان الجميع على حق وأنت مخطئ. ويجب أن نضع صوب أعيننا أن العديد من التعدديين يرغبون العيش بصدق أكثر دون الحاجة إلى الدفاع عن أنفسهم دوماً.

 

القاعدة الأخرى لاحترام الهويات المتعددة تُبنى على المعرفة فقد أصبحت مهتمًا بهذا المجتمع لأنه يبدو جليًا من بعض كتاباتهم أنها لأشخاص  محللين وعميقي التفكير. فقد قدموا هذا الادعاء الكبير الذي بدا غريبًا وزائفًا ولا زال كذلك. لكنهم فكروا فيه مليًا وقد وضحوا ذلك من خلال جوانب من تجربتهم التي لا يمكنني الوصول إليها. لذلك عقلانياً- إن صح التعبير- أن أستنتج أنني لا أفهم حتى الآن ما يدعونه، وأحيانًا تكون الطريقة الوحيدة لفهم فكرة ما هي «تجربتها».

 

تجربة الفكرة في هذه الحالة لا يمكن أن تحدث إلا في سياق المشاركة باحترام مع التعددي والتعامل معه كمجموعة من الأشخاص(ش). ستؤسس هذه المشاركة علاقة قد ينشأ منها التفاهم. ويمكنني أن أحقق قدرًا أكبر من التفاهم دون تصديق أن ما تقوله الشخصيات التعددية صحيح. رغم ذلك فإن هذه العلاقة تضعني في موقف يتيح لي فهم ما تعنيه هوياتهم التعددية لهم: ماذا تقدم لهم، وكيف تدعمهم في حياتهم. وهذا هو الموقف الذي يجب أن نعمل من أجله والذي يجب أن نصل إليه دائمًا قبل أن نتحدى الأشخاص من حولنا بشأن هوياتهم.

 

 

 

 

 

المصدر : 

https://aeon.co/ideas/what-we-can-learn-about-respect-and-identity-from-plurals 

انسخ الرابط
أضف تعليق تعليقات الزوار ( 0 )