أثر الترجمة في الثقافات
ترجمة: د/ وليد بن بليهش العمري
مدة القراءة: 7 دقائق
د/ وليد بن بليهش العمري
أستاذ دراسات الترجمة المشارك بجامعة طيبة
من يتتبع تاريخ الحضارة البشرية، يدرك أنه لا تنهض أي حضارة وليدة دون الأخذ عن سابقاتها. وفي البداية عندما كانت سبل التواصل شحيحة، كان لطريق الحرير(١) (وغيره من طرق القوافل التجارية) أثر كبير في تناقل الجوانب الحضارية المادية بين الشعوب، وربما شيء من الثقافة الفكرية. إلا أن التناقل الثقافي الفكري بين الشعوب تجلى في أبهى صوره عن طريق الترجمة، وأبرز الأمثل التاريخية عليه تتمثل في عالمنا العربي، فبدأ بالنهضة العربية الإسلامية الكبرى في القرن الرابع الهجري، التي كان حجر رحاها نقل علوم اليونان وغيرهم، مرورا بخروج أوروبا من عصور الظلام التي أفادت بلا ريب من علومنا العربية، وحتى القرن التاسع عشر عندما استفاقت الأمة العربية من وهدتها التي دامنت قرونا، على أكتاف الترجمة، ليبلغ التناقل الثقافي ذروته في عصر العولمة الذي تلاشت فيه جميع الحواجز الزمانية والمكانية بين سكان الأرض، وشاركتهم وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية في جميع تفاصيل حياتهم.
ولنمثل على هذا من تاريخنا العربي الذي مر بمرحلتين هامتين من حيث تأثير الترجمة على الثقافة، وهما في القرن الرابع الهجري والقرن التاسع عشر الميلادي.
أولا: خلال حركة الترجمة في صدر الحضارة الإسلامية خلال القرن الرابع للهجرة خاصة
بلغت حركة الترجمة على نحو متأصّل ومكثّف ذروتها في محطتها الأولى مع بداية وثبة العرب الحضارية الكبرى في القرن الرابع الهجري وتحديدا في عهد الخليفة العباسي المأمون، إذ نقلوا على نحو أساس علوم اليونان إلى العربية وبذلك وُلد فن الترجمة وشخوصه وأبطاله، وأرسيت قواعده وأسسه(٢). ومما لاشك فيه أن هؤلاء الرواد شقوا لنا طريقا سهلٌ ممشاها في أرض يَبَس وعِرة، وأرسوا قواعد الترجمة وتعريب المصطلحات الدخيلة وقعّدوا لطرقه وأساليبه، بحسب ما وفّقوا له من علم وفهم في عصرهم، وقد نجحوا في ذلك نجاحا باهرا إذ حفظوا للبشرية في تلك الحقبة علومها وبنوا عليها وطوروها بفضل ترجمتها إلى العربية ترجمة ناجحة نتج عنها علم حقيقي وحراك ثقافي كبير لا تخطئه عين منصفة(٣).
وحركة الترجمة الأولى كانت لها خاصّية تفرقها عن غيرها من الحقب، وبخاصة حقبة عالم اليوم المعولم الثوري المتجدد، فقد اعتمد على الأخذ من اللغتين اليونانية والسريانية (العلوم الطبيعية، والفلسفة)، وعلى نحو أقل شأنا لغات أخرى كالفارسية والسنسكرتية (الآداب، وعلم السياسة)، وهي إما لغات قوم قد ذوت حضارتهم وطوى التاريخ صفحتهم أو أنها لقوم كان لدولة الإسلام العربية الفتية الصولة والجولة عليهم حينها. وأما اللغة المترجم إليها فهي لغة الأسياد وأصحاب السلطان؛ لغة طرية على ألسن أصحابها طريّة في صدورهم، ولها عندهم شأو وحضوة. وعلاوة على هذا فإنهم كانوا انتقائيين فيما يترجم إلى لغتهم، فقد حددوا بدقة العلوم التي أرادوا أن يترجموها لسد حاجتهم المعرفية، وتركوا ما دون ذلك لمّا رأوا أن ما لديهم منه فيه غُنية. وعلاوة على هذا فهم نهِمين في طلب العلم النافع الذي يتخذونه سبيلا لإحسان عمارة الأرض امتثالا لأمر أمرهم به دينهم الذي أدركوا أنه هو سبب عزهم ورفعتهم، فنتج عنه حراك علمي عزّ أن تجد في التاريخ مثيله، وجعلت الترجمة من العرب شعبا أغزر علما وارسخ حضارة وأرطب مدنية، وساد بها العالم قرونا(٤).
ثانيا: الترجمة أسّ النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي
ثم بعد ذلك جاء ما يُعرف بعصر الانحطاط مع سقوط بغداد في أيدي التتتار، وبدأت رحلة الانحدار في سلم الحضارة، وساد الجهل، وبعد قرون لم يكن بقي للقوم من مجدهم السابق إلا أَثَارةٍ من علم لُفّ بدثار التقليد المهترئ؛ وهنا مرت المحطة الثانية(٥) التي لا تشبه الأولى بحال إذ كان العرب يمرون بأحلك أطوار التخلف والرجعية في تاريخهم بعد الإسلام، وفجأة جاءت الصدمة الكبرى: حملة نابوليون بونابارت على مصر عام ١٧٩٨م، وأدرك العرب حينها عمق الفجوة بينهم وبين الغرب، من حيث القوة العسكرية والتقدم الفكري. مما دفع حاكم مصر حينها محمد علي باشا - الذي آمن أن النهوض لا يكون إلا بالأخذ بأسباب الحضارة التي أخذ بها الغرب - في محاولة لسد الفجوة إلى إنشاء مدرسة تعليم اللغات التي عرفت فيما بعد بمدرسة الألسن، وبعث البعوث من الشبيبة لينهلوا علوم الغرب ليعودوا ليترجموها، وقد حفزّ هذا الحراكَ إنشاءُ المطابع لأول مرة في ذلك العصر في العالم العربي مما سهل طباعة الكتب المترجمة وتوزيعها ونشر العلم. وبدأ حراك ثقافي ونهضة جديدة وجدت صداها في مختلف أقطار العالم العربي ونتج عنها انتقال العرب إلى العصر الحديث، وخطوهم أُولى الخطوات في الطريق الصحيح للحاق بركب الأمم. ورسّخ لما يُعرف بالعربية المعيارية الحديثة (MSA)، وكذا لقواعد توليد الكلمات المتبعة حتى يومنا هذا وهي: التعريب، والاشتقاق، والترجمة، والمجاز، والنحت.
ولكي ندرك خصوصية هذه المرحلة وأهمية الانفتاح الكبير الذي أسست له، علينا أن نعي سياقها التاريخي وبخاصة مع: تباطؤ تقدم اللغة العربية، وطغو الطابع التقليدي التلقيني على تعليمها، وانتشار اللغات العامية المحكية على حساب الفصحى بسبب انحسار التعليم وتفشي الجهل، والتأخر في دخول عصر الآلة وبخاصة آلة الطباعة التي بها ينتشر العلم، وكذا ندرة المتخصصين في العلوم غير الشرعية إن لم نقل انعدامهم. فهذه كانت بحق نهضة شاملة لإعادة تأهيل أمة تفتقر إلى أدنى أسباب التقدم والرقي، إلا أنها وكما يلاحظ فون كرونيباوم (Von Grunebaum)(٦) اختلفت من الناحية النفسيىة عن سابقتها؛ ففي الأولى كانت الأمة العربية تعيش أسمى عصور أزدهارها إذ كانت لها الغلبة على سائر الأمم: فتحوا الفتوح وحققوا الانتصارات، بينما هذه المحطة الثانية جاءت في حقبة مغايرة تماما وهي حقبة انهزام وانكسار وإحساس عميق بالفشل، ومما لاشك فيه فإن هذا الموقف المتزعزع وجد صداه عند رواد النهضة واختياراتهم اللغوية فكثر الاقتراض بادئ الأمر من الحضارة المترجم منها من حيث: المفردات والمفاهيم بل وحتى الأساليب اللغوية(٧). إلا أن حركة تصحيحية نشأت بناء عليها، ونقّت العربية الحديثة من كثير مما شابها، وذلك بفضل وجود مرشِّحات ثقافية، وحرّاسٍ لبوابات الثقافة واللغة كمجامع اللغة العربية (٨).
وثالثا: حركة تدفق المصطلحات وتداول العبارات الحاصلة في العصر الحالي عصر العولمة والوثبات البشرية الكبرى: تأثير الترجمة السلبي على الثقافات (عصر الاحتناك المعرفي).
وهذا تحديدا هو ما يعُوزُ المحطة الثالثة وهو عصر العولمة والانفتاح الثقافي والانفجار العلمي الي نعيشه اليوم، وهي أيضا مرحلة صراع من أجل الهيمنة(٩)، وما يهمنا هنا في العولمة هو شقها الثقافي واللغوي، بغرض إبانة التحدي الحقيقي الذي تشهده اللغة والهوية العربيتين في عالم اليوم، وكيف أن واقع اليوم يختلف تماما عما سبقه في سردنا التاريخي المقتضب هذا، مما يحتم علينا تجديد أساليبنا في التعامل مع قضايا اللغة والهوية، ومن أهمها الاقتراض اللغوي المبالغ في التوسع فيه رغم وجود بديل عربي أصيل في أحيان كثيرة(١٠)، وأهم ما يمكن أن نعزو له علّة هذه الحال هو عدّة عوامل من أهمها:
- الانفجار المعرفي وكثافة الإنتاج الثقافي الذي يشهده عالم اليوم، إذ هو عالم قائم على الابتكار واقتصاد المعرفة؛
- وسهولة الوصول إلى هذا الطرح الهائل بكل يسر مباشرة دون وسيط في عالم ذاب فيه الحاجزين الزماني والمكاني، وبخاصة مع انتشار وسائل التواصل الحديثة؛
- مما أدى إلى غياب تام للمرشحات الثقافية الذي لا يمكن تشبيهه بشيء حتى في عالم ما قبل عشرين سنة مضت وحسب، فلا حدود ولا حواجز ولا وسائط بين المنتج والمتلقي؛
- وما فاقم الأمر هو انهيار المرجعيات التي من شئنها –وبسبب مقامها الذي يكُبر في صدور الناس- ولو على نحو لاحق للحدث، أن تبيّنه وتفرّق غثه من سمينه؛ وكل هذا يؤدي حتما إلى الذوبان اللغوي والثقافي في الآخر(١١).
وعلينا أن ندرك أن اللغة الإنكليزية –وهي أكثر لغة التي تُترجِم عنها أغلب الشعوب اليوم، والعرب ليسوا استثناءً بحال(١٢)، وهي لغة التواصل العالمي (Lingua Franca)- لغة متنمّرة شبّهها جون سوالز(١٣) بالديناصور المفترش ذو الفك الفولاذية المعروف بـ (Tyrannosaurus rex)، وحذر من تأثيرها على اللغات الأخرى الباحثين(١٤)، بل وشبَّهت كارن بينت(١٥) تأثيرها بإبادة النمط المعرفي (epistemicide)، وهذا ما يُخشى حدوثه للنمط المعرفي العربي لو استمر الحال على ما هو عليه.
ويمكن تلخيص هذه المحطات الثلاث وأبرز ملامحها من خلال الجدول الآتي:
العصر ___________ |
الأصل ___________ |
المرشِّح ___________ |
المتلقي ___________ |
النتيجة ___________ |
القرن الرابع الهجري
___________ |
لغات ميتة ومنهزمة ومهجورة
___________ |
وليد في طور النشوء محدّد الهدف والنطاق ___________ |
أسياد ممكنون من طبقةٍ نخبة
___________ |
حراك علمي واسع، وأنماط فكرية جديدة ___________ |
القرن التاسع عشر الميلادي
___________ |
ثقافة المستعمر وحضارته
___________ |
راسخ القدم ومتجدد ومدرك لدوره
___________ |
مستعمَرون راشدون ونهمون في طلب العلم ___________ |
نهضة حضارية، وأنماط لغوية وفكرية جديدة
___________ |
عصر العولمة |
شرسة ومحددة الهدف |
مهلهل ومنهزم مشوّش |
هزيل وجاهز للاختطاف |
احتناك(١٦) ثقافي ولغوي، وهوية في مهب الريح |
جدول رقم (1): الاختلافات الأساس بين محطات التعريب الثلاث الكبرى
وبالنظر في هذا الجدول الذي يختزل تاريخا قوامه 11 قرنا يمكن أن نجمل شروطا ثلاثة لكي تكون الترجمة ذات أثر إيجابي في الثقافة:
- انتقاء مادة الترجمة عن وعي، فلا نترجم كل شيء وحتى في هذه المادة المنتقاة نأخذ منها ما يفيد ونغفل ما هو دون ذلك، أي علينا أن نكون بحق كانيباليين (cannibalistic)(١٦) في التعامل مع النصوص حتى لا نورد على ثقافتنا دخيلا مربكا وبخاصة للمنظومة الفكرية.
- واستخدام المترجم المتمكن وتمكينه، فالمترجم الناقل ليس هو من توكل له هذه الأعمال الكبرى،
- تفاعل المشهد الثقافي مع المادة المترجمة تفاعلا أشبه ما يكون بالتفاعل الكيميائي الذي تنشأ عنه مادة جديدة، وقد يحدث انفجارا. وإلا فإن الترجمة أشبه ما تكون بكثيب رمل انتقل من مكانه ليلا في صحراء الربع الخالي دون أن تلحظه عين.
إن لم نلتزم بهذه الشروط فإن النتيجة الحتمية ستكون أنن سنواجه خطب جلل وأمر مدلهم وخطر محدق، وما الذي يتحتم علينا فعله؟ هل نعده ”حصان طرواده“ و ”ننفخ الصافرة!“، ”نعلق الجرس!“، و”ندق ناقوس الخطر!“، أم نرحب به؟ و“نفرش لها السجادة الحمراء“، ونبحث عن ” أرضية مشتركة“ ونفتح معه ”قنوات الحوار“، أم نتجاهله تجاهل ”الفيل في الغرفة؟؟“، أم نسلم أمرنا ونعد أنفسنا قد ”وصلنا إلى نقطة اللاعودة“، وأن الأمر قد أصاب منا ”عقب أخيل“.
___________________________
١
https://archive.aawsat.com/details.asp?section=54&article=619160&issueno=11839#.X3RqgNkza70
٢ انظر المقدمة: الجواليقي، المُعرّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم. دمشق، دار القلم، 1990م.
٣ انظر: سنغريد هونكية: شمس العرب تسطع على الغرب: أتر الحضارة العربية في أوروبة. ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، دار الجيل، بيروت.
٤
Al-Khalili, J. (2012) Pathfinders: The Golden Age of Arabic Science. London: Pelican Books.
٥ للمزيد انظر على سبيل المثال:
- Jabra, J. I. (1971). “Modern Arabic literature and the West”. Journal of Arabic Literature, 2, 76-91.
- Kirk, G. E. (1964). A short history of the Middle East: From the rise of Islam to modern times. Northhampton:
- Frederick Praeger Publishing.
٦
von Grunebaum, G. (1955) “Westernization in Islam and the Theory of Cultural Borrowing”. Islam, Wisconson, p. 241.
٧ للمزيد انظر:
Newman, D. (2013) “The Arabic Literary Language: the Nahda (and beyond)”. In J. Owens (ed.) Oxford Handbook of Arabic Linguistics. Oxford University Press.
٨ يذكر نيومان (المرجع السابق) أن نسبة الألفاظ الأوربية المعربة التي رودت في معجم هانز وير (1976) هي 1.6% من جميع مداخل المعجم البالغ عددها حوالي 40000 مدخل، و 1.5% من مداخل معجم سقراط سبيرو (1895) التي بلغ عددها حوالي 11000 مدخلا. وهذا يدل تمام الدلالة على نجاح الحركة التصحيحية التي تلت حركة التعريب الكبرى في القرن التاسع عشر، ووافقت الانتشار الواسع لمجامع اللغة العربية في زمن فتوّتها.
٩ لا يسعنا في هذا البحث التفصيل في واقع عصر العولمة الذي نعيشه اليوم وما له من تبعات متعددة على جميع النواحي والأصعدة، وما كُتب في هذا الباب كثير، إلا أن الباحث يود أن يشير إلى كتاب عُني بتأثير العولمة على جيل اليوم وهو للدكتور محمد عرابي: تأثير العولمة على ثقافة الشباب. الدار الثقافية للنشر، 2003.
١٠ للمزيد انظر: سهى نعجة: "إشكالية التعريب في ضوء هوية اللغة العربية: لغة الشباب الأردني أنموذجا". أوراق مؤتمر: اللغة العربية وتحديات العصر، 2009
١١
انظر:
Sabah Sabbah (2015) “Is Standard Arabic Dying?” Arab World English Journal (AWEJ), 6 (2), pp. 54-65.
١٢ للمزيد حول إحصاءات حركة الترجمة في العالم اليوم انظر مرصد الترجمات التابع لليونسكو الموسوم بكشاف الترجمات Index Translationum، على الرباط الشبكي التالي:
١٣
John Swales (1997) “English as Tyrannosaurus rex”. World Englishes, 16 (3), pp. 373-382.
١٤ انظر على سبيل المثال:
Dor, D. (2004). “From Englishization to Imposed Multilingualism: Globalization, the Internet, and the Political Economy of the Linguistic Code.” An interdisciplinary journal of transnational cultural studies, 16 (1), pp. 97-118.
١٥
Bennet, K. (2014) “Epistemicide! The Tale of a Predatory Discourse”. The Translator, 13 (2), 151-169.
١٦ للمزيد حول الحركة الكانبيبالية للترجمة انظر:
- Gentzler, E. (2007) Translation and Identity in the Americas: New Directions in Translation Theory. Routledge.
- https://www.academia.edu/2111494/Devouring_the_Other_cannibalism_translation_and_the_construction_of_cultural_identity#:~:text=Through%20cannibalistic%20translation%20the%20new,the%20first%20act%20of%20creation.
insider88
ود
حسين أحمد عبدالله الشومري
محمد عبد الفراج