سحر أبحاث العقل المتجددة وتأثيرها على فكرة العلاج النفسي
ترجمة: تهاني رماني
تدقيق: سارة الخيبري
مدة القراءة: ٨ دقائق
"لكل مشكلة إنسانية حل تقليدي - محكم ومنطقي وخاطئ".
لم يواجه الإنسان معضلة أشد من فهم طبيعتنا البشرية، إذ لا عجز في التعليلات المحكمة والمنطقية والخاطئة المعنية بالتعمق للعثور على ما نسعى إليه.
بعد معالجتي للعديد من آلاف المرضى النفسيين خلال مسيرتي المهنية، وأعمالي المتضافرة مع جهود الجمعية الأمريكية للطب النفسي لتصنيف الأعراض النفسية (والتي نُشرت باسم الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية أو
DSM-IV و (DSM-5، أُجزم بأن لا إجابات دقيقة في الطب النفسي. وأن أفضل ما يمكن القيام به هو تبني النموذج العالمي الرباعي المتحكم بالآداء البشري، كالجوانب البيولوجية والنفسية والاجتماعية والروحية. إذ يُفضي -حصر الناس في متحكم واحد كأدائهم العقلي أو ميولهم النفسية أو سياقهم الاجتماعي أو نضالهم لقيمتهم- إلى صورة مسطحة ومشوهة تغفل عن أكثر مما يمكنها التقاطه.
أسست الحكومة الفيدرالية -في الولايات المتحدة- الهيئة الوطنية للصحة العقلية (NIMH) في عام ١٩٤٩ لهدف عملي والذي يوفر تحليل موضوعي وشامل على مستوى البلاد وإعادة تقييم المشاكل البشرية والاقتصادية للصحة النفسية. وحتى قبل ثلاثين عاماً، كان المعهد الوطني للصحة العقلية يدرك الحاجة إلى هذا النهج المتكامل وحافظ على ميزانية بحثية متوازنة غطت مجموعة واسعة للغاية من المواضيع والتقنيات.
ولكن في عام ١٩٩٠، حولت (NIMH) الهيئة الوطنية للصحة العقلية مسارها وتجذرت بشكل مفاجئ بما يسمى "عقد الدماغ". ومنذ ذلك الوقت، حصرت الهيئة تركيزها بدقة على (بيولوجية الدماغ)، وتجاهلت كل ما يرتبط بالإنسانية في حال الصحة والمرض.
وبعد فقدها ـإلى حد كبيرـ الاهتمام بمحنة المرضى على أرض الواقع، استطاعت أن تُطلق على نفسها بدقة مسمى "الهيئة الوطنية لأبحاث الدماغ".
ونشأ هذا التحليل الغير متوافق مع معدات البحث الباهرة: كمشروع الجينوم البشري والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي والبيولوجيا الجزيئية والتعلم الآلي، إلى جانب الإعتقاد القديم بأن بيولوجيا الدماغ يمكن أن تُفسر في نهاية المطاف جميع جوانب الأداء العقلي. فكانت النتائج مغامرة فكرية عظيمة وتخبط سريري هائل، وبالتالي حصلنا على وسيلة رائعة إلى الجينات وأداء الدماغ ولكن لم يساعد الممارسة السريرية.
كلما ازدادت معرفتنا بعلم الوراثة والدماغ، كشف كل منهما عن غموضه وتعقيده. ومع مرور ثلاثة عقود وصرف خمسين مليار لم نجني ثمرة الجهد، إذ لم يكن هناك ثمار لجنيها بالأصل. للدماغ البشري ما يقارب ستة وثمانون مليار خلية عصبية، يتواصل كل منها مع آلاف آخرين بالتعاون مع مؤثرات خارجية، فينتج تريليونات من الاتصالات العصبية المحتملة، ولا عجب إن تدرج الجين في إظهار أسرار الدماغ.
يقدم علم الوراثة هذا التعقيد المربك على الصعيد نفسه، فعلى سبيل المثال: يساهم الاختلاف في أكثر من مئة جين على احتمالية الإصابة بالفصام، والتفاعل بأسلوب أشد تعقيداً مع الجينات الأخرى ومع البيئة المحسوسة والاجتماعية، وما هو أشد إحباطاً، مشاركة نفس الجين في احتمالية الإصابة بالاضطرابات العقلية المتعددة، وهو الأمر الذي يُضعف أي جهد يسعى لتخصيصها. وسيهزم هذا التنوع الأبدي أي تفسيرات وراثية هينة، بغض النظر عن عدد السنوات المستهلكة والمليارات المستثمرة.
وقولبت الهيئة -بصورة ضارة- نفسها في نمط بحثي غير متزن. وتفوق تلاعب أبحاث العقل والجينات الوراثية على مهمة مساعدة الناس الحقيقين –الأكثر صعوبة والأقل عقلانية.
وعلى النقيض من فشل الهيئة الوطنية للصحة العقلية، قصة النجاح الباهرة في سابق عهدها. إذ كانت احدى المستويات العالية في مسيرتي المهنية هي الجلوس مع لجنة المنح الخاصة بالهيئة الوطنية، التي مولت دراسات العلاج النفسي في الثمانينات. فشاركنا في دعم أبحاث عالمة النفس الأمريكية -مارشا لينهان- التي قادتها إلى تطوير علاج سلوكي منطقي وجدلي، وكذلك الطبيب النفسي الأمريكي -آرون تي بيك- في تطوير علاجه المعرفي، بالإضافة إلى العديد من الباحثين والدراسات الأخرى. ثم أثبتت الدراسات اللاحقة أن فعالية العلاج النفسي كعلاج الاكتئاب الخفيف إلى المعتدل والقلق وغيرها من الاضطرابات النفسية بالعقاقير، وتجنب مسؤولية الآثار الجانبية للأدوية والمضاعفات. وبالفعل، ساعدت الهيئة الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم بسبب أبحاثها للعلاج النفسي.
وفي عالم تسوده العقلانية، سوف تستمر الهيئة في تمويل ميزانية قوية لأبحاث العلاج النفسي وتعزيز استخدامها كمبادرة للصحة العامة للحد من الإفراط الهائل في وصف الأدوية النفسية في الولايات المتحدة. ويعتبر العلاج النفسي المختصر هو العلاج الأولي لمعظم المشاكل النفسية التي تتطلب التدخل، كما أنه سيتم التحفظ على العلاجات الدوائية للاضطرابات النفسية الحادة وللحالات التي لم تتجاوب بما فيه الكفاية للانتظار تحت الملاحظة أو العلاج النفسي.
ولكن لسوء الحظ، لا نعيش في عالم عقلاني، إذ تنفق شركات الأدوية مئات الملايين من الدولارات في كل عام بغرض التأثير على السياسيين والتسويق بشكل مضلل للأطباء والترويج للعلاجات الصيدلانية على الجمهور. كما روجوا بشكل الوهمي بنجاح إلى أن جميع الأعراض العاطفية عائدة إلى اختلال التوازن الكيميائي في الدماغ، وبالتالي يكون الطلب على العلاج بالقرص الطبي. والنتيجة هي أن ٢٠٪ من مواطني الولايات المتحدة يتعاطون العقاقير والمؤثرات العقلية ومعظمها ليس إلا مهدئات باهظة الثمن وجميعها تتسبب في خلق آثار جانبية ضارة.
تعتبر شركات الأدوية شركات تجارية تمتلك أذرع اقتصادية وسياسية متمكنة بينما يفتقر العلاج النفسي كبرنامج مبتدئ إلى وجود ميزانية تسويقية، وعدم وجود مضايقات من قبل مندوبي المبيعات في العيادات، ولا إعلانات تلفزيونية، ولا انترنت النوافذ المنبثقة، بالإضافة إلى عدم وجود تأثيرات من قبل السياسيين أو شركات التأمين. ولا عجب أن إهمال الهيئة لأبحاث العلاج النفسي مصحوب بإهمالها في الممارسة السريرية، وكذلك يوفر احتضان الهيئة للتقليص البيولوجي التشريع غير المقصود وغير المبرر المعزز لشركة الأدوية أن هناك دواء لكل داء.
من شأن ميزانية الهيئة المتوازنة أن تقطع شوطاً طويلاً نحو تصحيح أكبر كارثتين للصحة العقلية الحالية. ومن شأن الدراسات التي تقارن العلاج النفسي مقابل الدواء لمجموعة واسعة من حالات الاضطرابات العقلية الخفيفة إلى المعتدلة أن تساعد على تحقيق تكافؤ الفرص للطرفين، وفي النهاية، تقلل من الاعتماد المفرط على العلاجات الدوائية لعدم وجود "الاختلال الكيميائي". وهناك حاجة ماسة إلى اجراء بحوث عن الخدمات الصحية لتطبيق أفضل الممارسات لمساعدة الأشخاص الذين يعانون من أمراض عقلية حادة على تجنب الحبس والتشرد وكذلك الهروب منهم.
ويحق للهيئة أن تقوم بإبقاء نافذة مفتوحة على المستقبل، ولكن ليس على عاتق الاحتياجات الماسة للحاضر. كما ينبغي أن تظل أبحاث الدماغ جزءاً هاماً من جدول أعمال الهيئة المتوازن، وليس شغلها الشاغل الوحيد. وبعد ٣٠ عاما من استخدام الاختزال الحيوي في طرق غير مثمرة، حان وقت الهيئة –منذ وقت طويل- للنظر في إعادة الضبط البيولوجي النفسي الاجتماعي وإعادة التوازن إلى نمط البحوث غير المتكافئة بشكل كبير.
المصدر:
https://aeon.co/ideas/the-lure-of-cool-brain-research-is-stifling-psychotherapy